الميركاتو مقابر كروية.. للبيع

تأخذ فرق الكرة في العالم الثالث مصروفها اليومي من جيب الدولة ولو كانت
فقيرة وعاجزة عن دفع مستحقاتها تجاه الدائنين.. وربما يكون ذلك على حساب
التزامات اقتصادية أو اجتماعية تستخدمها النقابات سلاحا في مواجهة
الحكومة.. ففرق الكرة لا تختلف عن الولد المدلّل الذي كلّما كبُر سنًّا
زادت مطالبه وكبرت مخالبه.. لماذا لأن الفرق الرياضية في هذه البلدان لم
تصل بعد إلى المستوى الاحترافي الذي يجعلها قادرة على التكفل بشؤونها دون
الحاجة إلى خزينة الدولة التي تعاملها كما تعامل عمال التعليم أو الصحة..
أي أن المسألة تؤخذ بمنطق الخدمة العمومية.
أقول هذا لأن التخلي عن جيب
الدولة لا يكون إلا بالاحتراف والبحث عن جيوب أخرى.. والاحتراف لا يعني أن
يكون تركيز النادي على أحد عشر لاعبا فقط.. إنما في جعل النادي مؤسسة
منتجة، ليس للألقاب والكؤوس فحسب، ولكن ببناء منشآت للتكوين وتخريج
الأبطال، وهذا لا يتم إلا باستراتيجية حقيقية تشارك فيها الفعاليات
الاقتصادية والفنية والثقافية، وتوضع خطة استثمارية تحقق من ورائها الأندية
مداخيل سواء من سوق الاعلان والاشهار أو ''بيع النجوم'' وإنشاء صحف ومجلات
وكماليات ترتبط بالأندية كالقمصان وما يدخل في خدمات التسويق الخفيف..
ما
أقوله ليس جديدا، فالأندية التي مضى على وجودها أزيد من سبعين عاما أو
ظهرت مع نشوء كرة القدم، تعرف هذا جيدا ولها باع طويل فيه، مثل مانشستر
وريال مدريد وبرشلونة وبايرن ميونيخ وأولمبيك مارسيليا ويوفنتوس والأهلي
المصري وغيرها من أندية آسيا وأمريكا اللاتينية وبعض الأندية العربية التي
تحاول تبني هذا المنهج في الاحتراف الشامل.. ولا أعني الأندية التي يملكها
المنتمون لقارون، ممن جيوبهم منتفخة بالمليار وليس المليون أو القرش
المغبون.
فكثير من هذه الأندية لم يعد يكتفي بلعب الكرة وإمتاع الجماهير
وتحقيق فوائض مالية بفضل سياسة استثمارية مدروسة بإحكام، إنما تعداه إلى
القيام بأعمال خيرية تعطي للرياضة بعدها الانساني وليس التنافس من أجل
المجد والكسب المادي الواسع..
وأما الدافع الذي حفزني على كتابة هذا
المقال وتناول مسألة الاستثمار لدى الأندية، هو ما أقدم عليه منذ فترة
فريق أرجنتيني عريق، أخرج للعالم كبار النجوم، أعلاهم وأغلاهم مارادونا، هو
بوكا جينيور.. إذ أنه استثمر في كل شيء حتى.. المقابر. كيف ذلك؟
لقد
أقدمت إدارة النادي على شراء قطعة ترابية واسعة في أكبر مقبرة بالعاصمة
الأرجنتينية بيونس آيرس ووضعتها تحت تصرف أنصار الفريق ليحجزوا لأنفسهم
أماكن يدفنون فيها بعد وفاتهم.. أي أنهم مثلما يكونون متراصين في الملعب
يكونون متراصين أيضا في المقبرة، أي مثلما يقول المعلقون في الملعب هذا
جمهور بوكا جونيور، يقول الناس هؤلاء أموات بوكا جونيور.. ولله فيما يفعل
جماعة بوكا.. شؤون.
والحقيقة أنني عندما قرأت هذا الخبر، لم أستغرب
الأمر، لأن البلد الذي يخرج فيه عشاق مارادونا ليحيوا ذكرى اعتزاله لكرة
القدم، نفهم لماذا يقوم صحافيان ''مريضان'' بدييغو بتأسيس كنيسة مارادونا
التي تجعل من مذكراته إنجيلا ومن ميلاده تاريخا جديدا، ومن ذكرى تسجيله
هدفين خارقين في مرمى الإنجليز في عام 1986 محطة فاصلة في تاريخ كرة القدم،
ويكون لكنيسة روزاريو أتباع ومريدون.. نفهم حينها لماذا يفكر مسؤولو بوكا
جونيور في استثمار المقابر وبيع قبور جاهزة لمحبي الفريق.. وليت الأمر توقف
هنا، لأننا حين سمعنا أن شركة في أمريكا تبيع أرضا على القمر أبدينا
استغرابا، ويزداد استغرابنا عندما نقرأ أن هناك من اشترى أرضا في الأعالي
(..) رغم احتجاج مواطن يمني ادعى قبل سنوات ملكيته للقمر ومطالبته
الأمريكان بالكف عن انتهاك حرمة أرضه التي لا نعرف من أين جاء بسند ملكيته
لها..
عندما نسمع ونقرأ هذا الكلام، ليس هناك ما يدعو إلى الغرابة، لأن
قطعة الأرض التي عرضتها إدارة بوكا جونيور على جمهورها بيعت عن آخرها..
وكان لها صدى كبير لدى عشاق الكرة الذين ينتظرون دورهم ليدفنوا في مقبرة..
الجلد المنفوخ.
فماذا لو اقترح فريق كالمولودية أو الوفاق مثل هذا على
مناصريه ومحبيه.. كيف يكون رد الفعل؟ أعتقد أن الجمهور لن ينتظر طويلا
ليأتي بأعضاء مجلس إدارة الفريق إلى أرض الملعب ويدفنهم أحياء ولا يقرأ
عليهم الفاتحة. فلا حل سوى الاستثمار في جيب الدولة حفظها الله ورعاها
وأمدّ في عمرها..